سلسلة مقالات – الانضباط الوظيفي
بقلم د/ محمود الضابط
المقالة الثانية
تقوية عضلة الانضباط الخاصة بك
التحكم فى الذات , وضبط النفس , والإرادة جميعها مصطلحات مختلفة تدلل على شئ واحد : ألا وهو قدرتنا على دفع أنفسنا للأمام , والتضحية , والقوة الداخلية التى تمكننا من القيام بالأمر السليم .
وفى كل يوم نخوض معركة بين ما نشعر برغبة فى القيام به وما ينبغى أن نقوم به . وأحياناً ما نفوز فى هذه المعركة . فنحن نمارس ضبط النفس عندما نتعثر أثناء مغادرة سريرنا فى الصباح, وعندما نذهب إلى صالة الألعاب الرياضية بدلاً من الاستلقاء على الأريكة , وعندما يقع اختيارنا على المكرونة بالخضار بدلاً من اللحم البقرى , وفى كل المرات التى نمسك فيها على ألسنتنا , وننتظر بصبر , ونقول ” من فضلك ” .
وفى أحيان اخرى نبدو كما لو كنا نخسر المعركة ضد نزواتنا بنفس القدر الذى نفوز به . فهذه الأوقات التى نضغط فيها على زر إيقاف المنبه , ونطلب تلك الحلوى التى تحتوى على نسبة عالية من الدهون , أو ننقض فيها قرارات العام الجديد تذكرنا جميعها لاننا نسمى الاشخاص المنضبطين الذين نحلم بان نكونهم وحتى عندما نجد القوة التى تمكننا من عمل الصواب , نجد ان ارادتنا تصاب بالوهن تدريجيا يوميا . فنقدم تقريراً عن عملنا مبكرا يوم الاثنين , ونتاخر عن التقدم به لنصف ساعة يوم الثلاثاء ونفرض فى الاكل ثم نتبع حمية ونمارس التمارين الرياضية بشكل محموم لمدة اسبوع ونستلقى على الاريكة طوال الاسبوع الثانى . ولذا , فان العثور على القدر المناسب من ضبط النفس الثابت والمستمر على المدى البعيد هو جوهر المسئلة الذى يفوتنا دائماً .
ولعلك لا تنتمى إلى فئة أنصار المواعيد الاخيرة او المنتجين الذين سبق و تناولتهم بالمناقشة فى الفصول السابقة . وربما انك لاتعدو على كونك شخصا فى حاجة إلى تقوية عضلة ضبط النفس فحسب كيف تؤثر عضلة ضبط النفس غير المدربة على قدرتك على الوصول فى الوقت المحدد؟ فالخروج من الباب , كما تعرف , بطريقة عاجلة ليس بالامر السهل دائماً , إذ إنه ينطوى دائماً على نوع من التنازل , وضرب من الاختيار فعندما تستيقظ فى الصباح , فانك تختار ما بين الاستلقاء فى السرير لعشر دقائق اضافية والوصول الى العمل فى الوقت المحدد وبينما تعد العدة للاجتماع , فانك تختار ما بين ادخال تعديل اخير على جدول الاعمال والتاخر عن الاجتماع ولذا, فان اختيارك الامر الايسر – الإشباع اللحظى – وتفضيله على الصواب هو الذى يدلل على افتقارك لضبط النفس .
استرجع تلك الأوقات التى تأخرت فيها . ففى مرحلة ما أثناء استعدادك للرحيل , وقع اختيارك على أمر ما , سواء عن وعى منك أو بدون وعى تسبب فى تأخرك . فربما أن رأيك استقر على احتساء كوب أخر من القهوة , أو تغيير ملابسك مرة أخرى . وعلى الرغم من أنك على علم بأنك تضيق على نفسك الوقت باختيارك هذا , إلا أنه لم يكن لديك الاستعداد لكى تضحى من اجل الوصول فى الموعد المحدد . إن تعلم التضحية – كأن يكون المرء على استعداد لتحمل المنغصات البسيطة التى تصاحب هذه التضحية – يعد جزءاً أساسياً لاكتساب الانضباط الذى سينتقل بك إلى مصاف المبكرين . والواقع أن نجاحك فى ممارسة أى من التمارين التى يشتمل عليها هذا الكتاب يتطلب تدريب عضلة الانضباط الخاصة بك اولاً . فهى الأساس الذى يقوم عليه كل شئ .
إليك الأخبار السيئة الان تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يعانون من مشكلة التأخر كجماعة قد يجدون صعوبة أكبر فيما يتعلق بالانضباط مقارنة بالأشخاص الذين يحافظون على مواعيدهم ويعضد بحثى الشخصى من هذه الفكرة , ففى الاختبارات النفسية , وجد أن مدمنى التأخر أحرزوا درقات اقل من الاشخاص الذين يحافظون على مواعيدهم فى قسم الانضباط فيما احرزوا درجات اعلى فيما يختص بالاندفاع فقد عانى المتأخرون على سبيل المثال من مشاكل اكبر فيما يتعلق بالرذائل مثل التدخين , وشرب الكحوليات , والإفراط فى الاكل , وكانوا أكثر تفوهاً بأشياء وإتياناً لافعال ندموا عليها فى المستقبل .
والتأخر بشكل منتظم لا يضعك , بالطبع , فى مصاف غير المنضبطين بالكلية فالانضباط شئ محير فقد تكون نموذجاً فى قوة الإرادة فى بعض جوانب حياتك بيد أنك تفتقر اليها فى جوانب أخرى وحتى الاشخاص الناجحون أصحاب الانجازات الذين لهم الحق فى التفاخر بما حققوه يفقترون إلى ضبط النفس فى جوانب بعينها فحلقاتى الدراسية التى أجريها من اجل علاج مدمنى التأخر يجتمع فيها محامون ومهندسون وحتى معالج نفسى أو اثنان ويعد الرئيس الامريكى بيل كلينتون مثالاً مضيئاً على رجل ذكى ومجتهد وطموح أحياناً ما يعانى من مشاكل ضبط النفس فقد كانت له مبادرات على صعيد السياسة الخارجية وسن القوانين وأدار البلاد بيد أنه لم يستطع الوصول إلى أى اجتماع فى الموعد المحدد له .
ما السر وراء صعوبة ممارستنا الانضباط ؟
الرغبة فى تحقيق كل شئ :
ما السر وراء صعوبة ممارستنا الانضباط ؟ لسبب واحد أساسى : أننا نريد كل شئ فنود أن نخلد إلى النوم فى وقت متأخر متى انتابنا الارهاق دون أن نهمل أى امر من الأمور التى نقوم بها بطبيعة الحال كأن نتناول الخبز الفرنسى المحمص فى الإفطار والاطلاع على الصحف والعروج على محل تنظيف الملابس فى طريقنا قبل الذهاب إلى العمل .
ومثلنا مثل المصابين بعرض بيتر بان السالف ذكرهم فى العلاج الثانى فاننا نفزع لفكرة ضرورة الاختيار من بين خيارات راشدة والتعايش مع قيود واقعية وبدلاً من ذلك فاننا نميل الى الانجذاب الى عقلية ” كافة الامور ممكنة ” إذ نقنع انفسنا بانه ليس لزاماً علينا أن نتخلى عن أى شئ فيمكننا القيام بأى شئ نود القيام به ومما يدعو للاسف ان الحياة لا تسعنا دائماً وينتهى بنا الأمر للتاخر.
وبالنسبة لكثريين منا يصعب تقبل المنغصات والاستغناء عن الاشياء ولكن هذا هو لب ضبط النفس والتغلب الناجح على العادات وأعنى القدرة على التضحية وتقبل القيود إنه قوة اختيار افضل الخيارات على المدى البعيد بدلاً من الخيارات التى يميل إليها الهوى فى الوقت الراهن حتى ولو كان هذا يعنى التخلى عن شئ ما .
لماذا يفتقر البعض إلى القوة ؟
ما مبدأ هذا كله ؟ هل فطر البعض على الانضباط اكثر من غيرهم ؟ أم أن الانضباط هو شئ نتعلمه بمرور الوقت ؟ بالطبع ما من سبب واحد يعلل استصعاب شخص ما تقديم التضحيات أو مقاومة الحاجة الملحة للقيام بشئ ما قبل مغادرة المنزل مباشرة بيد أن هناك مكونات قليلة أساسية تلعب دوراً فى تحديد ما إذا كنت ستضحى شخصاً يحسن السيطرة على نفسه أم نموذجاً مثالياً للاستسلام للنزوات:
- تجاربك من المجهود والمنغصات
- العوامل الوراثية
- المؤثرات العائلية
تجاربك مع المجهود والمنغصات
ما هى تجربة بذل المجهود ؟ لقد اكتشف علماء الاجتماع أن قدر ضبط النفس الذى يتحلى له المرء عادة ما يرتبط بقدر التجارب التى مر بها واستدعت ممارسة ضبط النفس واكتشف الباحثان النفسيان روبرت أيزنبرجر ومايكل أدورنيتو فى دراستهما لضبط النفس أنه كلما تم إرجاء الجوائز الممنوحة للأطفال زاد قدر ضبط النفس الذى يبدونه فى التحديات اللاحقة على سبيل المثال عندما يصر الاب على ضرورة التزام ابنه بالتدريب على العزف على البوق على الرغم من ان هذه المهمة قد نبدو مملة ومرهقة فانه يعلم طفله تقبل المنغصات وتكريس الجهود تجاه هدف محدد .
وهناك دراسة مثيرة أجراها الباحثون ميشيل وشودا وبيك تدلل على أن عادات قوة الإرادة تمتد حتى مرحلة الرشد وفى هذه التجربة أعطى الباحثون الذين درسوا ضبط النفس الأطفال الصغار قطعة من الحلوى وطلبوا من كل منهم الجلوس بمعزل عن الاخرين فى غرفة منفصلة وقيل للأطفال إنه يمكنهم تناول الحلوى ولكنهم إن انتظروا لحين عودة الباحثين فسيحصلون على خمس قطع إضافية من الحلوى وبعد هذه التجربة بسنوات إذ تابع العلماء هؤلاء الاطفال حيث انتقلوا إلى مرحلة الرشد أكتشفوا ان الاطفال الذين مارسوا ضبط النفس ولم يتناولوا أول قطعة حلوى واصلوا ممارسة قدر أكبر من ضبط النفس كراشدين ولقد نزعوا أيضاً إلى تحقيق مزيد من النجاح فى كل من حياتهم العملية وحياتهم الشخصية .
التكوين الوراثى
ومن العوامل الأخرى التى تلعب دوراً فى تطور ضبط النفس هو الأداء السليم للقشرة الفصية الجبهية للمخ يصف الطبيب دانيال امين مؤلف كتاب Change Your Brain, Change Your Life , القشرة الفضية الجبهية , التى عادة ما يطلق عليها ” مركز التحكم التنفيذى ” للمخ , من منطلق مسئوليتها عن مهارات من قبيل إدارة الوقت , واتخاذ القرار , والسيطرة على النزوات والتخطيط والتنظيم ويقوم دكتور أمين : ” إن قدرتنا كبشر على التفكير , والتخطيط المسبق والاستخدام الحكيم للوقت والتواصل مع الاخرين تتأثر تأثراً عظيماً بهذا الجزء من المخ ومن دون الاداء السليم للقشرة الفصية الجبهية يصعب على المرء أن يتصرف بشكل يتسم بالتساوق والكياسة ويقع فريسة للنزوات ” .
المؤثرات العائلية
من الملائم والمناسب دائماً أن نلقى باللائمة على والدينا فيما يتعلق بالمشاكل التى نعانى منها أليس كذلك ؟ فهما كبشا فداء مناسبان ولكن الحقيقة هى ان العائلات تؤثر تأثيراً عظيماً متى تعلق الامر باكتساب ضبط النفس فالدور الاساسى الذى يلعبه الاباء جلى ألا وهو المثل الأعلى فالأباء الذين يمارسون ضبط النفس فى حياتهم اليومية يضربون الامثال لابنائهم ويشهد الاطفال قوة الإرادة كجزء طبيعى لا يتجزأ من حياتهم والواقع أنه من بين المبكرين الذين اجريت مقابلات شخصية معهم وجدت أن كثيراً منهم نسبوا محافظتهم على المواعيد إلى ابائهم الذين شددوا على ضبط النفس والالتزام بـ ” قواعد المجتمع ” أما العائلات المشوبة بالتأخير فكانت تميل إلى اعتناق معتقدات متساهلة تجاه كيفية تصرف أفرادها .
والعائلات أيضاً تؤثر على تطور ضبط النفس لدى الأطفال من خلال الحب والحنان يشرح دكتور هاوارد ويشنى فى كتابة The Impulsive Personality هذه الظاهرة قائلاً : إن الطفل الذى يكبر دون أن ينعم بقدر مناسب من كل الحب والحنان يعانى من شعور بالحبس النفسى والحرمان وللتخفيف من بواعث قلق الطفل قد ينمو لدى الطفل اسلوب تفكير ” اريد كل شئ ” ويجد بالتبعية صعوبة فى تحمل المنغصات والإحباطات .
والعائلات ليست هى العامل الوحيد بطبيعة الحال الذى يؤثر على سيطرتك على ذاتك وعلى انضباطك إذ إنك توفر عواملك الخاصة من خلال الاختيارات التى تقوم بها ففى كل مرة تختار فيها السهل وتفضله على الصواب – كأن تفضل إغلاق المنبه على الاستحمام – فإنك تقوض من قدرتك على اختيار الصواب فى المرة التالية يرى إرفينج كوبفرمان عالم بيولوجيا الجهاز العصبى من مركز Columbia-Presbyterian Medical Center الطبى أن عاداتنا تؤدى إلى تبدلات جسدية فى المسارات العصبية لمخاخنا فعندما نقوم بأداء أمر بشكل متكرر أو نتخذ نفس القرار مراراً وتكراراً تقوى مسارتنا العصبية فى هذا الاتجاه وتصبح كما سبل الغابات التى وطأتها الأقدام مراراً وتكراراً وتزداد نزعة سلوك هذه الدروب مع كل فعل متكرر نقوم به فالعادات لا تولد بين ليلة وضحاها بل تترسخ تدريجياً مع كل اختيار نقوم به .
* * *
انتهت بحمد الله المقالة الثانية لمسار كيم التعليمى للانضباط الوظيفي
بقلم الدكتور / محمود الضابط – كلية التجارة جامعة عين شمس
– تابعنا على صفحة موسوعة كيم لتنمية المهارات وبناء القدرات
أو تواصل معنا ( مركز الخبرات الإدارية والمحاسبية / كيم ) على رقم جوال أو واتس أب : 00201005289720
====================
هذه المادة محمية بحقوق الملكية لمركز كيم للتدريب والإستشارات ولايحوز الاقتباس منها الا بعد اذن كتابي من المالك CAME CENTER
اعداد / حمدي حسن – نائب مدير التدريب بمركز كيم